الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام
وقوله عليه السلام: «هو لك» أي أخ وقوله عليه السلام: «الولد للفراش» أي تابع للفراش أو محكوم له للفراش أو يقارب هذا.وقوله عليه السلام: «وللعاهر الحجر» قيل: إن معناه: أن له الخيبة مما ادعاه وطلبه كما يقال: لفلان التراب وكما جاء في الحديث الصحيح: «وإن جاء يطلب ثمن الكلب فاملأ كفه ترابا» تعبيرا بذلك عن خيبته: وعدم استحقاقه لثمن الكلب وإنما لم يجروا اللفظ على ظاهره ويجعلوا الحجر هاهنا عبارة عن الرجم المستحق في حق الزاني: لأنه ليس كل عاهر يستحق الرجم وإنما يستحقه المحصن فلا يجرى لفظ العاهر على ظاهره في العموم أما إذا حملناه على ما ذكرناه من الخيبة: كان ذلك عاما في حق كل زان والأصل العمل بالعموم فيما تقتضيه صيغته.5- عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل علي مسرورا تبرق أسارير وجهه فقال: «ألم تري أن مجززا نظرا آنفا إلى زيد بن حارثة وأسامة بن زيد فقال: إن بعض هذه الأقدام لمن بعض».وفي لفظ: «كان مجزز قائفا».أسارير وجهه تعني الخطوط التي في الجبهة واحدها سرر وسرر وجمعه أسرار وجمع الجمع أسارير وقال الأصمعي: الخطوط التي تكون في الكف مثلها السرر- بفتح السين والراء- والسرر- بكسر السين.استدل به فقهاء الحجاز ومن تبعهم على أصل من أصولهم وهو العمل بالقيافة حيث يشتبه إلحاق الولد بأحد الواطئين فهو طهر واحد لا في كل الصور بل في بعضها.ووجه الاستدلال: أن النبي صلى الله عليه وسلم سر بذلك وقال الشافعي رحمه الله: ولا يسر بباطل وخالفه أبو حنيفة وأصحابه واعتذارهم عن الحديث: أنه لم يقع فيه إلحاق متنازع فيه ولا هو وارد في محل النزاع فإن أسامة كان لاحقا بفراش زيد من غير منازع له فيه وإنما كان الكفار يطعنون في نسبه للتباين بين لونه ولون أبيه في السواد والبياض فلما غطيا رؤوسهما وبدت أقدامهما وألحق مجزز أسامة بزيد: كان ذلك إبطالا لطعن الكفار بسبب اعترافهم بحكم القيافة وإبطال طعنهم حق فلم يسر النبي صلى الله عليه وسلم إلا بحق.والأولون يجيبون: بأنه- وإن كان ذلك واردا في صورة خاصة- إلا أنه له جهة عامة وهي دلالة الأشباه على الأنساب فنأخذ هذه الجهة من الحديث ونعمل بها.واختلف مذهب الشافعي في أن القيافة: هل تختص ببني مدلج أم لا؟ من حيث إن المعتبر في ذلك الأشباه وذلك غير خاص بهم أو يقال: إن لهم في ذلك قوة ليست لغيرهم ومحل النص إذا اختص بوصف يمكن اعتباره لم يمكن إلغاؤه لاحتمال أن يكون مقصودا للشارع.ومجزز بضم الميم وفتح الجيم وكسر الزاي المشددة المعجمة وبعدها زاي معجمة.واختلف مذهب الشافعي أيضا في أنه هل يعتبر العدد في القائف أم يكتفي القائف الواحد؟ فإن مجززا انفرد بهذه القيافة ولا يرد على هذا لأنه ليس من محال الخلاف وإذا أخذ من هذا الحديث: الاكتفاء بالقائف الواحد فليس من محال الخلاف كما قدمنا.وقوله آنفا أي في الزمن القريب من القول وقد ترك في هذه الرواية ذكر تغطية أسامة وزيد رؤوسهما وظهور أقدامهما وهي زيادة مفيدة جدا لما فيها من الدلالة على صدق القيافة وكان يقال: إن من علوم العرب ثلاثة: السيافة والعيافة والقيافة فأما السيافة: فهي شم تراب الأرض ليعلم بها الاستقامة على الطريق أو الخروج منها قال المعري:
والمستاف هو هذا القاص وأما العيافة: فهي زجر الطير والطيرة والتفاؤل بهما وما قارب ذلك وأما السانح والبارح: ففي الوحش وفي الحديث: «العيافة والطيرة والطَرْقُ من الجبت» وهو الرمي بالحصا.وأما القيافة: فهي ما نحن فيه وهو اعتبار الأشباه لإلحاق الأنساب.6- عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: ذكر العزل لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «ولم يفعل ذلك أحدكم؟»- ولم يقل: فلا يفعل ذلك أحدكم «فإنه ليست نفس مخلوقة إلا الله خالقها».اختلف الفقهاء في حكم العزل فأباحه بعضهم مطلقا وقيل: فيه: إذا جاز ترك أصل الوطء جاز ترك الإنزال ورجح هذا بعض أصحاب الشافعي ومن الفقهاء من كرهه في الحرة إلا بإذنها وفي الزوجة إلا بإذن السيد لحقهما في الولد ولم يكرهه في السراري لما في ذلك- أعني الإنزال- من التعرض لإتلاف المالية وهذا مذهب المالكية.وفي الحديث إشارة إلى إلحاق الولد وإن وقع العزل وهو مذهب أكثر الفقهاء.7- عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: (كنا نعزل والقرآن ينزل).قال سفيان: (لو كان شيئا ينهى عنه لنهانا عنه القرآن).يستدل به من يجيز العزل مطلقا واستدل جابر بالتقرير من الله تعالى على ذلك وهو استدلال غريب وكان يحتمل أن يكون الاستدلال بتقرير الرسول صلى الله عليه وسلم لكنه مشروط بعلمه بذلك ولفظ الحديث لا يقتضي إلا الاستدلال بتقرير الله تعالى.8- عن أبي ذر رضي الله عنه: أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ليس من رجل ادعى لغير أبيه- وهو يعلمه- إلا كفر ومن ادعى ما لي له: فليس منا وليتبوأ مقعده من النار ومن دعا رجلا بالكفر», أو قال: «عدو الله وليس كذلك إلا حار عليه».كذا عند مسلم وللبخاري نحوه.يدل على تحريم الانتفاء من النسب المعروف والاعتزال إلى نسب غيره ولا شك أن ذلك كبيرة لما يتعلق به من المفاسد العظيمة وقد نبهنا على بعضها فيما مضى وشرط الرسول صلى الله عليه وسلم العلم لأن الأنساب قد تتراخى فيها مدد الآباء والأجداد ويتعذر العلم بحقيقتها وقد يقع اختلال في النسب في الباطن من جهة النساء ولا يشعر به فشرط العلم لذلك.وقوله: «إلا كفر» متروك الظاهر عند الجمهور فيحتاجون إلى تأويله وقد يؤول بكفر النعمة أو بأنه أطلق عليه «كفر» لأنه قارب الكفر لعظم الذنب فيه تسمية للشيء باسم ما قاربه أو يقال: بتأويله على فاعل ذلك مستحلا له.وقوله عليه السلام: «من ادعى ما ليس له» يدخل فيه الدعاوى الباطلة كلها ومنها: دعوى المال بغير حق وقد جعل الوعيد عليه بالنار لأنه لما قال: «فليتبوأ مقعده من النار» اقتضى ذلك تعيين دخوله النار لأن التخيير في الأوصاف فقط يشعر بثبوت الأصل.وأقول: إن هذا الحديث يدخل تحته ما ذكره بعض الفقهاء في الدعاوى من نصب مسخر يدعي في بعض الصور حفظا لرسم الدعوى والجواب وهذا المسخر يدعي ما يعلم أنه ليس له والقاضي الذي يقيمه عالم بذلك أيضا وليس حفظ هذه القوانين من المنصوصات في الشرع حتى يخص بها هذا العموم والمقصود الأكبر في القضاء إيصال الحق إلى مستحقه فانخرام هذه المراسم الحكمية مع تحصيل مقصود القضاء وعدم تنصيص صاحب الشرع على وجوبها: أولى من مخالفة هذا الحديث والدخول تحت الوعيد العظيم الذي دل عليه وهذه طريقة أصحاب مالك أعني عدم التشديد في هذه المراسيم.وقوله عليه السلام: «فليس منا» أخف مما مضى فيمن ادعى إلى غير أبيه لأنه أخف في المفسدة من الأولى إذا كانت الدعوى بالنسبة إلى المال وليس في اللفظ ما يقتضي الزيادة على الدعوى بأخذ المال المدعى به مثلا وقد يدخل تحت هذا اللفظ: الدعاوي الباطلة في العلوم إذا ترتبت عليها مفاسد.وقوله: «فليس منا» قد تأوله بعض المتقدمين في غير هذا الوضع بأن قال: ليس مثلنا فرارا من القول بكفره وهذا كما يقول الأب لولده- إذا أنكر منه أخلاقا أو أعمالا- لست مني وكأنه من باب نفي الشيء لانتفاء ثمرته فإن المطلوب أن يكون الابن مساويا للأب فيما يريده من الأخلاق الجميلة فلما انتفت هذه الثمرة نفيت البنوة مبالغة وأما من وصف غيره.بالكفر: فقد رتب عليه الرسول صلى الله عليه وسلم قوله: «حار عليه» بالحاء المهملة: أي رجع قال الله تعالى: {إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ} [الانشقاق:14] أي يرجع حيا وهذا وعيد عظيم لمن أكفر أحدا من المسلمين وليس كذلك هي ورطة عظيمة وقع فيها خلق كثير من المتكلمين ومن المنسوبين إلى السنة وأهل الحديث لما اختلفوا في العقائد فغلظوا على مخالفيهم وحكموا بكفرهم وخرق حجاب الهيبة في ذلك جماعة من الحشوية وهذا الوعيد لاحق بهم إذا لم يكن خصومهم كذلك.وقد اختلف الناس في التكفير وسببه حتى صنف فيه مفردا والذي يرجع إليه النظر في هذا: أن مآل المذهب: هل هو مذهب أو لا؟ فمن أكفر المبتدعة قال: إن مآل المذهب مذهب فيقول: المجسمة كفار لأنه عبدوا جسما وهو غير الله تعالى فهم عابدون لغير الله ومن عبد غير الله كفر ويقول: المعتزلة كفار لأنهم- وإن اعترفوا بأحكام الصفات- فقد أنكروا الصفات ويلزم من إنكار الصفات إنكار أحكامها ومن أنكر أحكامها فهو كافر وكذل المعتزلة تنسب الكفر إلى غيرها بطريق المآل.والحق: أنه لا يكفر أحد من أهل القبلة إلا بإنكار متواتر من الشرعية عن صاحبها فإنه حينئذ يكون مكذبا للشرع وليس مخالفة القواطع مأخذا للتكفير وإنما مأخذه مخالفة القواعد السمعية القطعية طريقا ودلالة.وعبر بعض أصحاب الأصول عن هذا بما معناه: إن من أنكر طريق إثبات الشرع لم يكفر كمن أنكر الإجماع ومن أنكر الشرع بعد الاعتراف بطريقة كفر لأنه مكذب وقد نقل عن بعض المتكلمين أنه قال: لا أكفر إلا من كفرني وربما خفي سبب هذا القول على بعض الناس وحمله على غير محمله الصحيح والذي ينبغي أن يحمل عليه: أنه قد لمح هذا الحديث الذي يقتضي أن من دعا رجلا بالكفر- وليس كذلك- رجع عليه الكفر وكذلك قال عليه السلام: «من قال لأخيه: كافر: فقد باء بهما أحدهما» وكأن هذا المتكلم يقول: الحديث دل على أنه يحصل الكفر لأحد الشخصين: إما المكفر أو المكفر فإذا أكفرني بعض الناس فالكفر واقع بأحدنا وأنا قاطع بأني لست بكافر فالكفر راجع إليه.
|